فصل: سؤال: أين المشار إليه في قوله: {ذلك}؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآيتين:

قال رحمه الله:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)}.
يذكر الله لنا حيثية الحكم عليهم؛ ولماذا لا يكلمهم؛ ولماذا لا يزكيهم، ولماذا يكون لهم في الآخرة عذاب أليم؟ إنهم قد بدلوا الضلالة بالهدى؛ والعذاب بالمغفرة. وعندما ترى فظاعة العقاب فلا تستهوله، ولكن انظر إلى فظاعة الجرم. إن الناس حين يفصلون الجريمة عن العقاب فهم يعطفون على المجرم؛ لأنهم لا يرون المجرم إلا حالة عقابه ومحاكمته ونسوا جريمته، ولذلك فساعة ترى عقوبة ما وتستفظعها؛ فعليك استحضار الجرم الذي أوجب تلك العقوبة. ولذلك نجد الناس غالبًا ما يعطفون على كل المجرمين الذين يحاكمون وتصدر عليهم عقوبات صارمة، لأن الجريمة مر عليها وقت طويل، ولم نرها، وآثارها وتبعاتها انتهت. ولم يبق إلا المجرم؛ فيعطفون عليه، ولذلك فمن الخطأ أن تطول الإجراءات في المحاكمات، بل لابد من محاكمة المجرم من فور وقوع الجريمة وهي ساخنة؛ حتى لا يعطف عليه الجمهور، لأن تعطيف قلب الجمهور عليه يجعل العقوبة قاسية.
{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} ونعرف أن الباء تدخل على المتروك، فالضلالة هنا أخذت وترك الهدى، واستبدلوا العذاب بالمغفرة، وماداموا قد أخذوا الضلالة بدلا من الهدى، والعذاب بدلا من المغفرة، فالعدالة أن يأخذوا العذاب الأليم.
وبعد ذلك يقول الحق: {فما أصبرهم على النار} هذا تبشيع للعقاب حتى ينفر منه الناس. ويريد منا الله أن نتعجب، كيف يجوز للضال أن يترك الهدى ويأخذ الضلال، وبعد ذلك تكون النتيجة أن يأخذ العذاب ويترك المغفرة. فما الذي يعطيه الأمل في أن يصبر على النار؟، هل عنده صبر إلى هذا الحد يجعله يقبل على الذنب الذي يدفعه إلى النار؟. وما الذي جعله يصبر على هذا العذاب؟ أعنده قوة تصبره على النار؟ وما هذه القوة؟. وكأن الحق يقول: أنت غير مدرك لما ينتظرك من الجزاء وإلا ما الذي يصبرك على هذه النار؟ إنك تتمادى في طغيانك وضلالك، وتنسى أن النار ستكون من نصيبك؛ فإذا كنت متيقنًا أن النار من نصيبك؛ فكيف أخذت أمانًا من صبرك على النار. فالنار أمر لا يصبر عليه إنسان أبدًا.
ويقول الحق بعد ذلك: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}.
وذلك إشارة إلى ما تقدم، وما تقدم هو الضلالة التي أخذوها وتركوا الهدى، والعذاب الذي أخذوه بدلًا من المغفرة، ونار يعذبون فيها، وقد صبروا عليها، إنها ثلاثة أشياء ملتقية؛ العذاب، والضلالة، والنار. فالضلال هو السبب الأصيل في العذاب، فإذا قال الله: عاقبتهم بكذا لأنهم ضلوا، فذلك صحيح، وإذا قال: فعلت فيهم ذلك لأنهم استحقوا العذاب، فهو صادق، والعذاب كحكم عام يكون بالنار. إذن، عندما يقول الحق: بالنار أو بالعذاب أو بالضلال فمرجعها جميعا واحد، يقال عنه: {ذلك}.
{ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق} والذي يغير الكتاب ويكتمه إنما يكره الحق.
{وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}. إنها هوة واسعة يسقطون فيها، فالشقاق في القيم المنهجية السماوية هو هوة كبيرة، فلو كان الخلاف في أمور مادية لأمكن للبشر أن يتحملوها فيما بينهم، ولكانت مسألة سهلة. ولكن الخلاف في أمر قيمي لا يقدر البشر علي أن يصلحوه فيما بينهم، من هنا فإن شقة الخلاف واسعة، ولا يقوى على حلها إلا الله، ولذلك قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من الآية 3 سورة الزمر. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

.سؤال: أين المشار إليه في قوله: {ذلك}؟

الجواب: اختلفوا في أن قوله: {ذلك} إشارة إلى ماذا؟ فذكروا وجهين:
الأول: أنه إشارة إلى ما تقدم من الوعيد، لأنه تعالى لما حكم على الذين يكتمون البينات بالوعيد الشديد، بين أن ذلك الوعيد على ذلك الكتمان إنما كان لأن الله نزل الكتاب بالحق في صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هؤلاء اليهود والنصارى لأجل مشاقة الرسول يخفونه ويوقعون الشبهة فيه، فلا جرم استحقوا ذلك الوعيد الشديد، ثم قد تقدم في وعيدهم أمور: أحدها: أنهم اشتروا العذاب بالمغفرة وثانيها: اشتروا الضلالة بالهدى وثالثها: أن لهم عذابًا أليمًا ورابعها: أن الله لا يزكيهم وخامسها: أن الله لا يكلمهم فقوله: {ذلك} يصلح أن يكون إشارة إلى كل واحد من هذه الأشياء، وأن يكون إشارة إلى مجموعها.
الثاني: أن {ذلك} إشارة إلى ما يفعلونه من جراءتهم على الله في مخالفتهم أمر الله، وكتمانهم ما أنزل الله تعالى، فبين تعالى أن ذلك إنما هو من أجل أن الله نزل الكتاب بالحق، وقد نزل فيه أن هؤلاء الرؤساء من أهل الكتاب لا يؤمنون ولا ينقادون، ولا يكون منهم إلا الإصرار على الكفر، كما قال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]. اهـ.

.سؤال: ما المراد من الكتاب؟

المراد من الكتاب يحتمل أن يكون هو التوراة والإنجيل المشتملين على بعث محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون هو القرآن، فإن كان الأول كان المعنى: وإن الذين اختلفوا في تأويله وتحريفه لفي شقاق بعيد، وإن كان الثاني كان المعنى وإن الذين اختلفوا في كونه حقًا منزلًا من عند الله لفي شقاق بعيد. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}.
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} الآية. قال: اختاروا الضلالة على الهدى، والعذاب على المغفرة {فما أصبرهم على النار} قال: ما أجرأهم على عمل النار.
وأخرج سفيان بن عيينة وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن مجاهد في قوله: {فما أصبرهم على النار} قال: والله ما لهم عليها من صبر ولكن يقول: ما أجرأهم على النار.
وأخرج ابن جرير عن قتادة في {فما أصبرهم} قال: ما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار.
وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: {فما أصبرهم على النار} قال: هذا على وجه الاستفهام يقول: ما الذي أصبرهم على النار؟ وفي قوله: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب} قال: هم اليهود والنصارى {لفي شقاق بعيد} قال: في عداوة بعيدة.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال: إثنان ما أشدهما عليّ، ومن يجادل في القرآن {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} [غافر: 4] {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال في صفوة التفاسير:
البلاغة:
1- {خطوات الشيطان} استعارة عن الاقتداء به واتباع آثاره قال في تلخيص البيان:
وهي أبلغ عبارة عن التحذير من طاعته فيما يأمر به وقبول قوله فيما يدعو إلي فعله.
2- {السوء والفحشاء} هو من باب عطف الخاص على العام لأن السوء يتناول جميع المعاصي، والفحشاء أقبح وأفحش المعاصي، خصت بالذكر لخطرها.
3- {ومثل الذين كفروا} فيه تشبيه مرسل ومجمل مرسل لذكر الأداة ومجمل لحذف وجه الشبه، فقد شبه الكفار بالبهائم التي تسمع صوت المنادي دون أن تفقه كلامه وتعرف مراده.
4- {صم بكم عمي} حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فهو تشبيه بليغ أي هم كالصم في عدم سماع الحق، وكالعمي في عدم رؤية الهدى، وكالبكم في عدم الانتفاع بنور القرآن.
5- {ما يأكلون في بطونهم إلا النار} مجاز مرسل باعتبار ما يؤول إليه إنما يأكلون المال الحرام الذي يفضي بهم إلى النار وقوله: {في بطونهم} زيادة تشنيع وتقبيح لحالهم، وتصويرهم بمن يتناول رضف جهنم، وذلك أفظع سماعا وأشد إيجاعًا.
6- {اشتروا الضلالة بالهدى} استعارة والمراد استبدلوا الكفر بالإيمان، شبه تعالى تركهم الإيمان وأخذهم الكفر، بإنسان اشترى بضاعة، فدفع فيها ثمنا كبيرا، ثم ذهبت التجارة وعظمت الخسارة، فأصبح من النادمين. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}.
قوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} في ما هذه خمسةُ أقْوالٍ:
أحدها: وهو قول سيبويه، والجُمهُور: أَنَّها نكرةُ تامَّةُ غير موصُولة، ولا موصوفةٍ، وَأَنَّ معناها التعجُّب، فإذَا قُلْتَ: مَا أَحْسَنَ زَيْدًا، فمعناهُ: شيءٌ صَيَّرَ زَيْدًا حَسَنًا.
الثاني: قولُ الفراء- رحمه الله تعالى- أَنَّهَا استفهاميَّةٌ صَحِبَها معنى التعجُّب؛ نحو كَيْف تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ.
قال عطَاءٌ، والسُّدِّيُّ: هو ما الاستفهام، معناه: ما الَّذي صَبَّرهم على النَّار؟ وأيُّ شيء صَبَّرهم على النَّار؛ حتى تَرَكثوا الحَقَّ، واتبعوا البَاطِلَ.
قال الحَسَن، وقَتادة: والله ما لهم عَلَيْها من صَبْر، ولكنْ ما أجرأهم على العمل الَّذي يقرِّبهم إلى النار وهي لغة يَمَنية معروفةٌ.
قال الفراء: أخبرني الكسائيُّ قال: أخبرني قاضي اليَمَنِ أَنَّ خَصْمَينِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فوجَبَتِ اليمينُ على أحدهِمَا، فحلَفَ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: ما أصْبَرَكَ عَلَى اللَّهِ؟ أي: ما أجرأك عليه.
وحكي الزَّجَّاجُّ: ما أبقاهُمْ على النَّار، من قولِهِم: مَا أَصْبَرَ فُلاَنًا على الحَبْس، أي: ما أبقاهُ فيه.
والثالث: ويُعْزَى له أيضًا: أنها نكرةٌ موصوفةٌ وهي على الأقوال الأربعة في مَحَلِّ رفع بالابتداءِ، وخبرها على القَوْلين الأولَيْن: الجملةُ الفعليَّة بعدَها، وعلى قوْلي الأخْفَش: يكون الخبر مَحذوفًا فإنَّ الجملة بعدها إما أن تكون صلةً، أو صفةً وكذلك اختلفُوا في أفْعَل الواقع بعدها، أهو اسمٌ؟ وهو قول الكوفيِّن، أم فعل؟ وهو الصحيحُ، ويترتَّب على هذا الخلاَفِ خلافٌ في نصْب الاسْمِ بعده، هَلْ هو مفعولٌ به، أو مشبَّهة بالمعفول به، ولكلٍّ مِنَ المذْهَبَين دلائلُ، واعتراضات وأجوبةٌ ليس هذا موضعها.
والمراد بالتعجُّب هنا، وفي سائر القُرْآن: الإعلامُ بحالهم؛ إنَّها ينبغي أنْ يتعجَّب منها، إلا فالتعجب مستحيلٌ في حقِّه تعالى، ومعنى عَلَى النَّارِ، أي: على عمل أهْل النار، قاله الكِسَائيُّ، وهذا من مجاز الكَلاَمِ.
الخامس: أنَّها نافيةٌ، أَي: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار}.
نقله أَبُو البقاء.
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله}: اختلفُوا في مَحَلِّ: {ذَلِكَ} من الإعراب فقيل: رفعٌ، وقيل: نَسْبٌ والقائلُونَ بأنَّه رفْعٌ، اختلفوا على ثلاثة أقْوَال:
أحدها: أَنَّهُ فاعلٌ بفعلٍ محذوف، أي: وجب لَهُمْ ذلك.
الثاني: أن {ذَلِكَ} مبتدأٌ، و{بِأَنَّ اللَّهَ} خبره، أي: ذلك العذابُ مستحقٌّ بما أنزل الله في القرآن من استحقاق عَذَاب الكَافِرِ.
والثالث: أنَّهُ خَبَرٌ، والمبتدأ محذوفٌ، أَي: الأمرُ ذلك، والإشارة إلى العَذَابِ، ومَنْ قال بأنَّه نصب، قدَّره: فعلنا ذلك والباءُ متعلِّقة بذلك المَحْذُوف، ومَعْنَاها السببية. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (177):

قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين سبحانه وتعالى كفر أهل الكتاب الطاعنين في نسخ القبلة بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وكتمان الحق وغير ذلك إلى أن ختم بكفرهم بالاختلاف في الكتاب وكتمان ما فيه من مؤيدات الإسلام اتبعه الإشارة إلى أن أمر الفروع أحق من أمر الأصول لأن الفروع ليست مقصودة لذاتها، والاستقبال الذي جعلوا من جملة شقاقهم أن كتموا ما عندهم من الدلالة على حقيته وأكثروا الإفاضة في عيب المتقين به ليس مقصودًا لذاته، وإنما المقصود بالذات الإيمان فإذا وقع تبعته جميع الطاعات من الصلاة المشترط فيها الاستقبال وغيرها فقال تعالى: {ليس البر} أي الفعل المرضي الذي هو في تزكية النفس كالبر في تغذية البدن {أن تولوا وجوهكم} أي في الصلاة {قبل المشرق} الذي هو جهة مطالع الأنوار {والمغرب} الذي هو جهة أفوالها أي وغيرهما من الجهات المكانية، فإن ذلك كله لله سبحانه وتعالى كما مضى عند أول اعتراضهم التصريح بنسبة الكل إليه {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115].
ولما كان قد تبين للمتقين كما ذكر قبل ما يخرج عن الصراط المستقيم وحذروا منه ليجتنبوه عقبه بما يلزمهم ليعملوه فابتدأ من هنا بذكر الأحكام إلى قوله: {آمن الرسول} [البقرة: 258] وبدأ ذلك بما بدأ به السورة وفصل لهم كثيرًا مما كلفوه مما أجمله قبل ذلك ففصل الإيمان تفصيلًا لم يتقدم فقال: {ولكن البر من} أي إيمان من، ولعله عبر بذلك إفهامًا لأن فاعل ذلك نفسه بر أي أنه زكى حتى صار نفس الزكاة {آمن بالله} الذي دعت إليه آية الوحدانية فأثبت له صفات الكمال ونزهه عن كل شائبة نقص مما على ذلك من دلائل أفعاله. ولما كان من أهم خلال الإيمان القدرة على البعث والتصديق به لأنه يوجب لزوم الخير والبعد عن الشر قال: {واليوم الآخر} الذي كذب به كثير من الناس فاختل نظامهم ببغي بعضهم على بعض، فالأول مبرأ عن الأنداد وهذا مبعد عن أذى العباد.
ولما كان هذا إيمان الكمل وكان أكثر الناس نيام العقول لا يعرفون شيئًا إلا بالتنبيه وضُلال البصائر يفترقون إلى الهداية ذكر سبحانه وتعالى الهداة الذين جعلهم وسائط بينه وبين عباده بادئًا بالأول فالأول فقال: {والملائكة} أي الذين أقامهم فيما بينه وبين الناس وهم غيب محض {والكتاب} الذي ينزلون به على وجه لا يكون فيه ريب أعم من القرآن وغيره {والنبيين} الذين تنزل به عليهم الملائكة، لكونهم خلاصة الخلق، فلهم جهة ملكية يقدرون بها على التلقي من الملائكة لمجانستهم إياهم بها، وجهة بشرية يتمكن الناس بها من التلقي منهم، ولهم من المعاني الجليلة الجميلة التي صرفهم الله فيها بتكميل أبدانهم وأرواحهم ما لا يعلمه إلا هو فعليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام.
قال الحرالي: ففيه أي الإيمان بهم وبما قبلهم قهر النفس للإذعان لمن هو من جنسها والإيمان بغيب من ليس من جنسها ليكون في ذلك ما يزع النفس عن هواها. انتهى.
وكذا فضل سبحانه وتعالى الصدقة، وفي تعقيب الإيمان بها إشعار بأنها المصدقة له فمن بخل بها كان مدعيًا للإيمان بلا بينة، وإرشاد إلى أن في بذلها سلامة من فتنة المال {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} [التغابن: 15] لأن من آمن وتصدق كان قد أسلم لله روحه وماله الذي هو عديل روحه فصار عبد الله حقًا، وفي ذلك إشارة إلى الحث على مفارقة كل محبوب سوى الله سبحانه وتعالى في الله. قال الحرالي: فمن ظن أن حاجته يسدها المال فليس برًا، إنما البر الذي أيقن أن حاجته إنما يسدها ربه ببره الخفي. انتهى.
فلذلك قال: {وآتى المال} أي الذي أباحه بعد جعله دليلًا عليه كرم نفس وتصديق إيمان بالاعتماد في الخلف على من ضمن الرزق وهو على كل شيء قدير؛ وأشار إلى أن شرط الإيمان به إيثاره سبحانه وتعالى على كل شيء بقوله: {على حبه} أي إيتاء عاليًا فيه حب الله على حبه المال إشارة إلى التصدق في حال الصحة والشح بتأميل الغنى وخشية الفقر؛ وأشار إلى أنه لوجهه لا لما كانوا يفعلونه في الجاهلية من التفاخر فقال: {ذوي القربى} أي لأنهم أولى الناس بالمعروف لأن إيتاءهم صدقة وصلة {واليتامى} من ذوي القربى وغيرهم لأنهم أعجز الناس {والمساكين} لأنهم بعدهم في العجز ويدخل فيهم الفقراء بالموافقة {وابن السبيل} لعجزهم بالغربة، وإذا جعلنا ذلك أعم من الحال والمآل دخل فيه الغازي {والسائلين} لأن الأغلب أن يكون سؤالهم عن حاجة ويدخل الغارم {وفي الرقاب} قال الحرالي: جمع رقبة وهو ما ناله الرق من بني آدم فالمراد الرقاب المسترقة التي يرام فكها بالكتابة وفك الأسرى منه، وقدم عليهم أولئك لأن حاجتهم لإقامة البينة.
ولما ذكر سبحانه وتعالى مواساة الخلق وقدمها حثًا على مزيد الاهتمام بها لتسمح النفس بما زين لها حبه من المال اتبعها حق الحق فقال: {وأقام الصلاة} التي هي أفضل العبادات البدنية ولا تكون إلا بعد سد أود الجسد ولا تكون إقامتها إلا بجميع حدودها والمحافظة عليها. ولما ذكر ما يزكي الروح بالمثول بين يدي الله سبحانه وتعالى والتقرب بنوافل الصدقات ذكر ما يطهر المال وينميه وهو حق الخلق فقال: {وآتى الزكاة} وفي الاقتصار فيها على الإيتاء إشعار بأن إخراج المال على هذا الوجه لا يكون إلا من الإخلاص.
ولما أتم الإيمان وما يصدق دعواه في الجملة شرع في كمال ذلك فعطف على أول الكلام ما دل بعطفه كذلك على أنه مقصود لذاته فإنه جامع لدخوله في جميع ما تقدمه فقال: {والموفون بعهدهم} قال الحرالي: من الإيفاء وهو الأخذ بالوفاء نجاز الموعود في أمر المعهود. انتهى.
وبين قوله: {إذا عاهدوا} أن المطلوب ما ألزموا أنفسهم به للحق أو الخلق تصريحًا بما أفهمه ما قبله. ولما قطع الوفاء تعظيما له لدخوله فيما قبل فعل كذلك في الصبر لذلك بعينه فقال: {والصابرين} وفيه رمز إلى معاملته بما كان من حقه لو عطف على {من آمن} لو سيق على الأصل. قال الحرالي: وفيه إشعار بأن من تحقق بالصبر على الإيثار فكان شاكرًا تحقق منه الصبر في الابتلاء والجهاد تأييدًا من الله سبحانه وتعالى لمن شكره ابتداء بإعانته على الصبر والمصابرة انتهاء، كأنه لما جاد بخير الدنيا على حبه أصابه الله ببلائها تكرمة له ليوفيه حظه من مقدوره في دنياه فيكون ممن يستريح عند موته وبأنه إن جاهد ثبت بما يحصل في نفس الشاكر الصابر من الشوق إلى لقاء الله سبحانه وتعالى تبرؤًا من الدنيا وتحققًا بمنال الخير من الله. انتهى.
وعين أشد ما يكون الصبر فيه فقال: {في البأساء} أي عند حلول الشدة بهم في أنفسهم من الله سبحانه وتعالى بلا واسطة أو منه بواسطة العباد {والضراء} بحصول الضر في أموالهم وبقية أحوالهم من احتقار الناس لهم ونحوه، وفسرها في القاموس بالشدة والنقص في الأموال والأنفس فهو حينئذ أعم ليكون الأخص مذكورًا مرتين. اهـ.